الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (2- 3): وقوله سبحانه: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاءً...} الآية: أخبر تعالى أَنَّ مُدَارَاةَ هؤلاء الكفرة غيرُ نافعة في الدنيا، وأَنَّها ضارَّةٌ في الآخرة؛ ليبين فسادَ رأي مُصَانِعِهِمْ، فقال: {إِن يَثْقَفُوكُمْ} أي: إنْ يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم، وانبسطت إليكم أيديهم بِضَرَرِكُمْ وَقَتْلِكُمْ، وانبسطت ألسنتُهم بسبِّكم، وأَشَدُّ من هذا كله إنَّما يقنعهم أَنْ تكفروا، وهذا هو ودهم،، ثم أخبر تعالى أنَّ هذه الأرحامَ التي رغبتم في وصلها، ليستْ بنافعة يومَ القيامة، فالعامل في {يَوْمَ} قوله {تَنفَعَكُمْ}، وقيل: العامل فيه {يُفَصِلُ} وهو مِمَّا بعده لا مِمَّا قبله، وعبارةُ الثعلبيِّ {لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم} أي: قرابتكم منهم {وَلاَ أولادكم}: الذين عندهم بمكة {يَوْمَ القيامة}: إذا عصيتم اللَّه من أجلهم {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}: فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النارَ، انتهى. * ت *: وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى: {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] الآية: واعلم أنَّ المال والسبب النافع يوم القيامة، ما كان لِلَّهِ وقُصِدَ به العونُ على طاعة اللَّه، وإلاَّ فهو على صاحبه وَبَالٌ وطولُ حساب، قال ابن المبارك في رقائقه: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن الحارث يُحَدِّثُ عن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاصي أَنَّه سمعه يقول: ويجمعون يعني ليوم القيامة فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينُها؟ فيبرزون، فَيُقَالُ: ما عندكم؟ فيقولون: يا رَبَّنَا، ابْتُلِينَا فَصَبِرْنَا، وأنت أعلم، أحسبه، قال: ووليت الأموال والسلطانَ غَيْرَنا، فيقال: صدقتم، فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان، وتبقى شِدَّةُ الحساب على ذَوِي السلطان والأموال، قال: قلت: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسيُّ من نور، ويُظَلِّلُ عليهم الغمامُ، ويكون ذلك اليومُ أقصرَ عليهم من ساعة من نهار، انتهى، وفي قوله تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: وعيدٌ وتحذير. .تفسير الآيات (4- 5): وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} أي: قدوة {فِى إبراهيم}: الخليل {والذين مَعَهُ}: قيل: مَنْ آمن به مِنَ الناس، وقال الطبريُّ وغيره: {والذين مَعَهُ}: هم الأنبياء المعاصرون له أو قريباً من عصره، قال * ع *: وهذا أرجح؛ لأَنَّهُ لم يُرْوَ أَنَّ لإبراهيم أتباعاً مؤمنين في وقتِ مكافحته نمروداً، وفي البخاريِّ: أنه قال لسارةَ حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود: ما على الأرض مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ غيري وغيرُك، وهذه الأُسْوَةُ مُقَيَّدَةٌ في التبري من المشركين وإشراكهم، وهو مُطَّرِدٌ في كل مِلَّةٍ، وفي نبينا مُحَمَّدٍ عليه السلام أسوةٌ حسنةٌ على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كُلِّها. وقوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي: كذبناكم في عبادتكم الأصنامَ. وقوله: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ} يعني: تأسوا بإبراهيم، إلاَّ في استغفاره لأبيه، فلا تتأسوا به فتستغفروا للمشركين، لأَنَّ استغفاره إنَّما كانَ عَنْ موعدةِ وعدها إيَّاهُ؛ وهذا تأويل قتادة، ومجاهد، وعطاءِ الخُرَاسَانِيِّ وغيرهم. وقوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} إلى قوله: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} هو حكاية عن قول إبراهيم والذين معه، وهذه الألفاظ بَيِّنَةٌ مِمَّا تقدم في آي القرآن. وقوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} قيل: المعنى: لا تغلبهم علينا، فنكونَ لهم فتنةً وسَبَبَ ضلالةٍ؛ نحا هذا المنحى قتادةُ وأبو مِجْلَزٍ، وقد تقدم مُسْتَوفًى في سورة يونس، وقال ابن عباس: المعنى: لا تسلِّطْهم علينا فيفتنونا عَنْ أدياننا، فكأَنَّه قال: لا تجعلنا مفتونين، فَعَبَّرَ عن ذلك بالمصدر، وهذا أرجح الأقوال؛ لأَنَّهُمْ إنَّما دعوا لاًّنْفُسِهِم، وعلى منحى قتادة: إنما دعوا للكفار، أَمَّا أَنَّ مقصدَهم إنما هو أَنْ يندفع عنهم ظهورُ الكُفَّارِ الذي بسببه فِتَنُ الكُفَّارِ، فجاء في المعنى تحليقٌ بليغ. .تفسير الآيات (6- 7): وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي: في إبراهيم والذين معه، وباقي الآية بَيِّنٌ، وروي أَنَّ هذهِ الآياتِ لما نزلت، وَعَزَمَ المؤمنون على امتثالها، وَصَرْمِ حِبَالِ الكَفَرَةِ لحقهم تَأَسُّفٌ وهمٌّ من أَجل قراباتهم؛ إذ لم يؤمنوا، ولم يهتدوا، حَتَّى يكونَ بينهم التوادُدُ والتواصُلُ، فنزلت: {عَسَى الله...} الآية: مؤنسةً في ذلك، ومُرْجِيةً أَنْ يقعَ، فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح، وصار الجميعُ إخواناً، وعسى من اللَّه واجبةُ الوقوع. * ت *: قد تقدم تحقيقُ القولِ في {عَسَى} في سورة القصص، فأغنى عن إعادته. .تفسير الآيات (8- 11): وقوله تعالى: {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم...} الآية: اختلف في هؤلاء الذين لم يَنْهَ عنهم أنْ يُبَرُّوا، فقيل: أراد المؤمنين التاركين للهجرة، وقيل: خُزَاعَةَ وقبائلَ من العرب، كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومُحِبِّينَ لظهوره، وقيل: أراد النساءَ والصبيان من الكَفَرَةِ، وقيل: أراد مِنْ كُفَّارِ قريش مَنْ لم يقاتلْ ولا أخرج، ولم يُظْهِرْ سُوءاً؛ وعلى أَنَّها في الكفار فالآية منسوخةٌ بالقتال، والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مَرَدَةُ قريش. وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ المؤمنات مهاجرات} الآيةُ نزلَتْ إثرَ صلح الحديبية؛ وذلك أَنَّ ذلك الصلحَ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أتى مُسْلِماً من أهل مَكَّةَ، رُدَّ إليهم، سَواءٌ كان رجلاً أو امرأةً، فَنَقَضَ اللَّهُ تعالى من ذلك أَمْرَ النساء بهذه الآية، وحكم بأَنَّ المهاجرة المؤمنةَ لا تُرَدُّ إلى دار الكُفْرِ، و{فامتحنوهن}: معناه: جربوهن واستخبروا حقيقةَ ما عندهنَّ. وقوله تعالى: {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} إشارة إلى الاسترابة ببعضهنَّ. * ت *: وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات...} الآية: العلم هنا: بمعنى الظن، وذكر اللَّه تعالى العِلَّةَ في أَلاَّ يُرَدَّ النساءُ إلى الكُفَّارِ وهو امتناعُ الوطء وحُرْمَتُهُ. وقوله تعالى: {وَءَاتُوهُم مَّا أَنفَقْتُمْ...} الآية: أمر بأَنْ يؤتى الكُفَّارُ مهورَ نسائهم التي هاجرنَ مؤمناتَ، ورفع سبحانه الجناحَ في أَنْ يتزوجنَ بصدقاتٍ هي أجورهِن، وأمر المسلمين بفراق الكافراتِ وأَلاَّ يتمسكوا بعصمهن، فقيل: الآية في عابداتِ الأوثان ومَنْ لا يجوزُ نكاحُها ابتداءً، وقيل: هي عامَّةٌ نُسِخَ منها نساءُ أهل الكتاب، والعِصَمُ: جمع عِصْمَة، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وأمر تعالى أَنْ يسأل أيضاً المؤمنون: ما أنفقوا؟ فرُوِيَ عنِ ابن شهاب أَنَّ قريشاً لَمَّا بلغهم هذا الحكم، قالوا: نحن لا نرضى بهذا الحكم، ولا نَلْتَزِمُهُ، ولا ندفع لأحد صَدَاقاً، فنزلت بسبب ذلك هذه الآيةُ الأخرى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَئ مِّنْ أزواجكم إِلَى الكفار...} الآية: فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أنْ يدفعوا إلى مَن فَرَّتْ زوجتُه ففاتتْ بنفسها إلى الكُفَّارِ صَدَاقَهُ الذي أنفق، واخْتُلِفَ: مِنْ أَيِّ مَالٍ يُدْفَعُ إليه الصَّدَاقُ؟ فقال ابن شهاب: يُدْفَعُ إليه من الصدقات التي كانت تُدْفَعُ إلى الكفار بسبب مَنْ هاجر من أزواجهم، وأزال اللَّه دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه، قال * ع *: وهذا قول صحيح يقتضيه قوله: {فعاقبتم} وقال قتادة وغيره: يُدْفَعُ إليه من مغانم المغازي، وقال هؤلاء: التعقيب هو الغزو والمغنم، وقال ابن شهاب أيضاً: يدفع إليه مِنْ أيِّ وجوه الفيء أمكن، والمعاقبة في هذه الآية ليستْ بمعنى مجازاة السوء بسوءٍ، قال الثعلبي: وقرأ مجاهد: {فَأَعْقَبْتُمْ} وقال: المعنى: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، انتهى، قال * ع *: أي: وذلك بأنْ يفوت إليكم شيء من أزواجهم، وهكذا هو التعاقب على الجَمَلِ والدَّوَابِّ أنْ يركبَ هذا عقبة وهذا عقبة، ويقال: عاقب الرجلُ صاحِبَه في كذا، أي: جاء فِعْلُ كُلِّ واحد منهما بعقب فعل الآخر، وهذه الآيةُ كُلُّها قدِ ارتفع حكمها. .تفسير الآيات (12- 13): وقوله عز وجل: {ياأيها النبى إِذَا جَاءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ...} الآية: هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على الصَفَا، وهي كانت في المعنى بَيْعَةِ الرجال قَبْلَ فرض القتال. * ت *: وخرَّج البخَاريُّ بسنده عن عائِشَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بهذه الآيَةِ: {ياأيها النبى إِذَا جَاءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} الآية. وكذا روى البخاريُّ من طريق ابن عباس أَنَّهُ عليه السلام تَلاَ عَلَيْهِنَّ الآيةَ يَوْمَ الْفِطْرَ عَقِبَ الصَّلاَةِ، وَنَحْوُهُ عن أُمِّ عطيةَ في البخاري: وَقَرَأَ عَلَيْهِنَّ الآيَةَ أيْضاً في ثَانِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ وكلام * ع *: يُوهِمُ أَنَّ الآيةَ نزلت في بيعة النساء يومَ الفتح، وليس كذلك؛ وإنَّما يريد أَنَّه أعاد الآيةَ على مَنْ لم يبايعه من أهل مَكّة؛ لِقُرْبِ عهدهم بالإسلام، واللَّه أعلم، والإتيان بالبهتان: قال أكثر المفسرين: معناه أنْ تَنْسِبَ إلى زوجها ولداً ليس منه، قال * ع *: واللفظ أَعَمُّ من هذا التخصيص. وقوله تعالى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ}: يعم جميع أوامر الشريعة، فَرْضَهَا وَنَدْبَهَا، وفي الحديث: «أَنَّ جَمَاعَةَ نُسْوَةٍ قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا الآية، فَلَمَّا فَرَغْنَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، فَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا لأَنْفُسِنَا» وقوله تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ} أي: أمض لَهُنَّ صفقة الإيمان؛ بأنْ يُعْطِينَ ذلك من أنفسهن، ويُعْطَيْنَ عليه الجَنَّةَ، واخْتُلِفَ في هيئة مبايعته صلى الله عليه وسلم النساءَ بعد الإجماع على أَنَّهُ لم تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ امرأة أجنبيَّةٍ قَطُّ؛ والمرويُّ عن عائشةَ وغيرِها: «أَنَّهُ بَايَعَ بِاللِّسَانِ قَوْلاً، وقال: إنَّما قَوْلِي لِمِائَةِ امرأة كَقَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ». و{قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ}: هم اليهود في قول ابن زيد وغيره، ويأسهم من الآخرة: هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها، وقال ابن عباس: {قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ}: في هذه الآية كُفَّارُ قريش. وقوله: {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور}: على هذا التأويل هو على ظاهره في اعْتِقَادِ الكَفَرَةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ حَمِيمٌ قَالوا: هَذَا آخِرُ العَهْدِ بِهِ لاَ يُبْعَثُ أبَداً. .تفسير سورة الصف: وقيل: مكية. والأول أصح؛ لأن معاني السورة تعضده، ويشبه أن يكون فيها المكي والمدني. بسم الله الرحمن الرحيم .تفسير الآيات (1- 3): قوله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} قد تقدَّمَ تفسيرُه، واخْتُلِفَ في السببِ الذي نزلتْ فيه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} فقال ابن عباس وغيره: نزلتْ بسببِ قَوْمٍ قالوا: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ العَمَلِ إلى اللَّهِ تعالى لسَارَعْنَا إليه، ففرضَ اللَّهُ الجهادَ وأعلَمَهُمْ بفَضْلِه؛ وأَنَّهُ يُحِبُّ المقَاتِلينَ في سبيله كالبنيانِ المَرْصُوصِ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ منهم، وفَرُّوا يومَ الغزوِ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ تعالى بهذه الآية، وقال قتادة والضحاك: نزلتْ بسببِ جماعةٍ من شبابِ المسلمينَ كانوا يَتَحَدَّثُونَ عن أنفسِهم في الغزو بما لم يفعلوا، قال * ع *: وحُكْمُ هذهِ الآيةِ بَاقٍ غَابِرَ الدهرِ، وكلَّ مَنْ يقولُ ما لا يفعلُ فهو مَمْقُوتُ الكلامِ، والقولُ الأولُ يَتَرَجَّح بِمَا يأتي من أمْرِ الجهادِ والقتالِ، والمقتُ البغضُ، مِن أجل ذنبٍ، أو رِيبَةٍ، أو دَنَاءَةٍ يَصْنَعُها الممقوتُ، وقول المرءِ مَا لا يفعلُ مُوجِبٌ مَقْتَ اللَّهِ تعالى، ولذلك فرَّ كثيرٌ من العلماءِ عَنِ الوَعْظِ والتذكيرِ وآثرُوا السكوتَ، * قلت *: وهَذا بحسَبِ فِقْهِ الحالِ؛ إنْ وَجَدَ الإنْسانُ مَنْ يكفِيه هذه المَؤُنَةَ في وقتهِ، فَقَدْ يَسَعُه السكوتُ وإلا فَلاَ يسعُه، قال الباجي في سنن الصالحين له: قال الأصمعي: بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الحكماءِ كَانَ يقول: إني لأَعظكُم وإنّي لَكَثيرُ الذنوبِ، وَلَوْ أن أحَداً لاَ يَعِظُ أخاه حَتَّى يُحْكِمَ أَمْرَ نَفْسِهِ لتُرِكَ الأَمْرُ بالخيرِ، واقْتُصِرَ عَلى الشَّرِّ، ولكنَّ محادثةَ الإخوانِ حياةُ القلوبِ وجَلاَء النُّفُوسِ وتَذْكِيرٌ مِنَ النسيانِ، وقال أبو حازم: إني لأعظ الناسَ وما أنا بموضعٍ للوَعْظِ، ولكنْ أريدُ به نَفْسِي، وقَالَ الحسنُ لمطرف: عِظْ أصْحَابَكَ، فَقَالَ: إنِّي أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفعل فقالَ: رحمك اللَّه؛ وأيُّنَا يَفْعَلُ ما يقول، وَدَّ الشيطانُ أنه لَو ظَفَرَ منكم بهذهِ فَلَمْ يأمُرْ أحدٌ منكم بمعروفٍ، وَلَمْ يَنْهَ عن منكر، انتهى. .تفسير الآيات (4- 9): وقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ...} الآية، قال معاذ بن جبل: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له الجنة، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ القَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقاً، ثُمَّ مَاتَ أوْ قُتِلَ فَإنَّ لَهُ أجْرَ شَهِيدٍ»، مختصر رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: هَذَا حديثٌ صحيحٌ انتهى من السلاح، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مقَالَةَ مُوسَى، وذلك ضربُ مَثَلٍ للمؤمنينَ؛ ليحذَرُوا مَا وَقَعَ فيه هؤلاء من العصيانِ وقولِ الباطل. وقوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِى} أي: بتعنيتِكم وعصيانِكم واقْتِرَاحَاتِكُم، وأسْنَدَ الزيغَ إليهم؛ لكونهِ فعلَ حطيطَةٍ، وهذا بخلافِ قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} [التوبة: 118] فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إليه سبحانَه؛ لِكَوْنِهَا فعلَ رِفْعَةٍ، وزاغ معناه مَالَ وصَارَ عُرْفُهَا في الميلِ عن الحق، و{أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} معناه طَبَعَ عليْهَا وكثُرَ مَيْلُها عنِ الحقِّ؛ وهذهِ هي العُقُوبَةُ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ. وقوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ} قال عياض في الشفا: سَمَّى اللَّه تعالى نبيَّه في كتابه محمداً وأحمدَ؛ فأما اسمه أحمد، فأَفْعَلُ مبالغةً من صفةِ الحَمْدِ، ومُحَمَّد مُفَعَّل من كثرةِ الحمدِ، وسمى أمَّته في كتب أنبيائِه بالحمَّادينَ؛ ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصِه سبحانه وبدائع آياته؛ أنه سبحانه حَمَى أن يتسمَّى بهما أَحَدٌ قَبْلَ زمانِه، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشَّرَتْ به الأنبياء؛ فمنع سبحانه أن يَتَسَمَّى به أحد غيرُه؛ حتى لا يدخلَ بذلكَ لَبْسٌ عَلى ضعيفِ القلبِ؛ وكذلك محمَّد أيضاً لم يَتَسَمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شَاعَ قبيلَ وجودِه صلى الله عليه وسلم وميلادِه أَنَّ نبيًّا يبعثُ اسمهُ محمد؛ فسمَّى قومٌ قليلٌ من العرب أبناءَهم بذلك؛ رجاءَ أَنْ يكونَ أحدُهم هو، وهُم محمد بن أحيحة الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان باليمن، ويقولون: بل محمد بن اليحمد من الأزد، ومحمد بن سوادة منهم؛ لا سابعَ لهم، ولم يَدَّعِ أحد من هؤلاء النبوَّة أو يظهرْ عليْهِ سببٌ يشكِّكُ الناس، انتهى، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: «لاَ تُسَمُّوا أَوْلاَدَكُمْ مُحَمَّداً ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ»، رواه الحاكم في المستدركِ، انتهى من السلاح. وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات...} الآية: يحتملُ أن يريدَ عيسى ويحتملُ أن يريدَ محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه تقدَّمَ ذكرُه، * ت *: والأول أظهر.
|